أطلقت جمهورية مصر العربية في عام 2016، رؤية طموحة تحت عنوان "مصر 2030". ضمّت هذه الرؤية هدفًا محوريًا يتمثل في التحول الرقمي؛ وإيمانًا عميقًا بأهمية التحول الرقمي كمحرك أساسي للتنمية والتقدم في مختلف مجالات الحياة. وتتعدد المفاهيم لمصطلح التحول الرقمي؛ إذ يُشير إلى التغير الجذري في طريقة العمل والتفاعل والتواصل باستخدام التكنولوجيا الرقمية بكافة أشكالها؛ ومن بين تلك التقنيات الرائدة؛ الحاسوب، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية.

وتسعى مصر إلى دمج التكنولوجيا في شتى القطاعات والمؤسسات؛ إذ تعمل على تحويل حكومتها إلى "حكومة إلكترونية ذكية"؛ تُتيح للمواطنين الوصول للخدمات الحكومية بسهولة دون اللجوء للطريقة البيروقراطية في الحضور الشخصي؛ ما يساهم في تحسين كفاءة العمل الحكومي ومكافحة الفساد.

ووفقًا لدراسة «دور التحول الرقمي في تحقيق التنمية في إطار رؤية مصر 2030» فإن التحول الرقمي يؤدي إلى إنتاج كميات كبيرة وجديدة من المعلومات، والتي تساهم في صنع القرار والتخطيط الاستراتيجي. ويمكن تعريفه أيضًا على أنه استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بهدف تطوير الأداء المؤسسي، وزيادة الفاعلية والكفاءة في مستوى تقديم الخدمات الحكومية؛ وذلك عبر توظيف التقنيات الحديثة والمتطورة.

ويُعد التحول الرقمي ركيزة أساسية لتحقيق رؤية مصر 2030؛ فهو يساهم في تنمية مختلف القطاعات، وتحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطن المصري، وتعزيز كفاءة العمل الحكومي، ودفع عجلة التقدم الاقتصادي والاجتماعي. وفي هذا المقال؛ نسلط الضوء على مجهودات الدولة المصرية في التحول الرقمي؛ إذ أصبح ضرورة حتمية لمواكبة التقدم في العالم.

رؤية 2030 - مصر الرقمية

خطوات مصرية نحو الرقمية

تطوير البنية التحتية للإنترنت والهاتف المحمول

أصدر البنك الدولي تقريرًا يفيد بتحسنٍ في مؤشر جاهزية الحكومة المصرية للتحول الرقمي؛ إذ أصبحت مصر من ضمن مجموعة الدول الرائدة بالتصنيف (A) صعودًا من (B) في عام 2020، و(C) في عام 2018. وصرح وزير الاتصالات الدكتور عمرو طلعت؛ أن الدولة ضخت استثمارات بأكثر من 100 مليار جنية لرفع كفاءة شبكة الإنترنت؛ والذي نتج عنه ارتفاعًا لمتوسط سرعة الإنترنت الثابت، من 5.3 ميجابت في الثانية في ديسمبر 2017، إلى 61 ميجابت في الثانية في أكتوبر 2023، وذلك وفقًا لتقرير شركة أوكلا العالمية.

وفي خطوة استراتيجية هامة؛ استثمرت الدولة 150 مليار جنية لإحلال شبكات النحاس بجميع أنحاء الجمهورية بكابلات الألياف الضوئية؛ ولم تقتصر الاستثمارات على الإنترنت فقط؛ بل شملت أيضًا تطوير شبكات الهاتف المحمول، إذ ضُعِفت عدد شبكات الهاتف المحمول 5 مرات، لترتفع من 6976 برجًا إلى 34641 برجًا محمولًا.

ونتيجةً لذلك التطور؛ تمكنت المصرية للاتصالات توقيع رخصة تشغيل خدمات الجيل الخامس للهاتف المحمول 5G؛ وأتى العقد بقيمة 150 مليون دولار مقابل رخصة تشغيل خدمات الجيل الخامس لمدة 15 عام. وتتمتع تقنية الـ 5G بسرعة هائلة؛ إذ تتيح تنزيل الملفات الكبيرة ومشاهدة الفيديوهات بدقة عالية، والتواصل عبر الإنترنت بشكل سلس. وتتصف التقنية بمستوى عالٍ من الموثوقية؛ ما يقلل من انقطاع الاتصال، ويضمن جودة عالية للخدمات.

 

المصرية للاتصالات - أول مقدم لخدمة 5G في مصر

تعاون بين شركات تقنية عالمية: IBM و SAP و Amazon

حلول الذكاء الاصطناعي التوليدي في مصر - IBM

وقعت مذكرة تفاهم بين وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات و IBM؛ تتيح المذكرة استخدام حلول الذكاء الاصطناعي التوليدي Generative AI والرقمنة الذكية لرفع كفاءة سير العمل بالمؤسسات الحكومية. وبفضل خبرات IBM في هذا المجال، ستتمكن الوزارة من أتمتة العديد من المهام المُتكررة ورقمنة الخدمات الحكومية المقدمة للمواطنين. وتُلزم مذكرة التفاهم شركة IBM بتقديم خبراء مُتخصصين لفريق التطوير من مركز الابتكار التطبيقي التابع لوزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. ويشمل ذلك تقديم الدعم والتدريب والاستشارات اللازمة لضمان استخدام حلول الذكاء الاصطناعي التوليدي بشكل فّعال. 

وأثمرت المذكرة عن تعاون وزارة الاتصالات مع شركة IBM، في إنشاء واعتماد نماذج الذكاء الاصطناعي القائمة على منصة watsonx؛ والتي تمثل الجيل القادم من منصات البيانات والذكاء الاصطناعي المبنية على أفضل التقنيات مفتوحة المصدر.

 فخورون بتوسيع شراكة IBM مع وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات للاستفادة من نماذج الذكاء الاصطناعي، والتي من شأنها إحداث تغيير جذري بالشركات والمجتمعات - مروة عباس (المدير العام لشركة IBM مصر)

منظومة خدمات سحابية مصرية - SAP

ووقّع البريد المصري اتفاقية هامة مع شركة SAP العالمية، بهدف الارتقاء بخدماته وتطويرها باستخدام أحدث التقنيات العالمية. وتأتي الاتفاقية في إطار سعي البريد المصري لتطبيق أفضل الحلول التكنولوجية على كافة الخدمات والمعاملات، تماشيًا مع رؤية مصر 2030 للتحول الرقمي. وتشمل الاتفاقية إنشاء منظومة خدمات سحابية محلية حديثة "RISE with SAP"، تهدف إلى استيعاب تطبيقات الحوسبة السحابية وتطوير تطبيقات البريد المصري بما يتواكب مع أفضل الأنظمة العالمية في إدارة الهيئات البريدية.

وتُعدّ هذه الاتفاقية نقلة نوعية للبريد المصري، إذ تُساهم في جعله أول هيئة بريد في الشرق الأوسط وجنوب أوروبا تستخدم تطبيقات SAP السحابية. وتُتيح الاتفاقية للبريد المصري رفع القدرات الفنية للعاملين فيه، وتقديم خدمات جديدة ومبتكرة للمواطنين. ويُثمر تعاون البريد المصري مع SAP عن تطور ملحوظ في جودة الخدمات المقدمة، إذ يتم تحديثها وتطويرها باستمرار لتلبية احتياجات العملاء المتغيرة.

الحوسبة، تخزين واستخدام قواعد البيانات في مصر - Amazon

أعلنت شركة أمازون ويب سيرفيسز (AWS)؛ خلال مؤتمرها للحوسبة السحابية؛ عن توافر خدمات AWS Outposts في مصر، والتي تقدم مجموعة واسعة من الخدمات لجميع الجهات الحكومية والشركات العامة والخاصة في مختلف القطاعات؛ إذ يمكن للعملاء استخدام خدمات AWS Outposts، في تشغيل الحوسبة وتخزين المعلومات، واستخدام قواعد البيانات، وخدماتها الأخرى محليًا. وتوفر خدمات أمازون للحوسبة السحابية؛ نفس البنية التحتية والخدمات والأدوات الخاصة بـ AWS، ما يتيح قابلية تطبيقها في أي مركز بيانات محلي أو مساحة مشتركة لمراكز البيانات.

دعم الإبداع الرقمي وتنمية الشركات الناشئة 

افتتح رئيس الجمهورية السيد عبد الفتاح السيسي؛ مراكز إبداع مصر الرقمية في كلٍ من أسوان، وقنا، والمنيا، والمنوفية، والإسماعيلية، والمنصورة، والقاهرة. ويهدف نشر مراكز الإبداع الرقمية إلى توفير بيئة محفزة للإبداع التكنولوجي وريادة الأعمال في كافة أنحاء مصر؛ ولتحقيق ذلك زادت عدد المراكز من 3 مراكز إلى 30 مركزًا.

وتضم المراكز جميع التجهيزات اللازمة؛ إذ تتوفر مراكز للتدريب ولعقد الندوات وورش العمل، وحاضنات تكنولوجية؛ وهي برامج ومؤسسات تقدم الدعم والخدمات للشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا خلال مراحلها المبكرة. وتهدف إلى مساعدة رواد الأعمال على تحويل أفكارهم المبتكرة إلى مشاريع تجارية ناجح، كما تعمل على الربط بين الشباب والمستثمرين، وكبرى الشركات العالمية والمحلية العاملة في دعم الإبداع وريادة الأعمال.

وإكمالًا لدعم الرواد؛ اتفقت المراكز مع شركتين عالميتين في مجال تمكين الشركات الناشئة وتسريع نموها. تعاقد مركز إبداع مصر الرقمية قصر السلطان حسين كامل مع شركة بلاج أند بلاي (Plug and Play)؛ وتعاقد مركز الجيزة مع شركة جلوبال 500 (Global 500). ونجحت عدة شركات ناشئة في إبرام صفقات استثمارية وتمويلية بقيمة 600 مليون دولار في عام 2022؛ محققة نموًا بنسبة 22% عن عام 2021.

تبذل الدولة المصرية جهودًا في تطوير البنية التحتية، والتعاون مع شركات تقنية عالمية مثل أمازون وSAP، وIBM، التزامًا بتحقيق أهدافها في التحول الرقمي، وتقديم خدمات أفضل للمواطن المصري. ولكن تتطلب الرؤية في التحول الرقمي إلى استثمارات هائلة؛ إذ يمكن أن تشكل عبئًا على الدولة المصرية في ظل الأوضاع الاقتصادية المضطربة محليًا وعالميًا.

إنجاز جديد – نحو مستقبل رقمي

مصر تنشئ أول مركز بيانات وطني P1

افتتح الرئيس عبد الفتاح السيسي أول مركز حكومي في تحليل ومعالجة البيانات الضخمة، ويُعد مركز P1 للحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي هو الأول من نوعه في مصر وشمال أفريقيا؛ وأشار رئيس الوزراء المصري؛ بأن المركز واحد من أحدث المراكز في العالم.

ويمتد المركز على مساحة 23500 متر مربع، تنقسم إلى 10000 متر مربع مخصصة للبنية التحتية الحالية، وباقي المساحة للتوسعات المستقبلية؛ وشارك في إنشاء المركز أكثر من 15 شركة محلية ودولية، وأكثر من 1200 مهندس وعامل، بقدرة عمل تتجاوز 5000 ساعة عمل.

وأُنشأ المركز وفقًا لأحدث التقنيات الدولية؛ إذ أشار الرئيس السيسي أن الدولة استثمرت مليارات الدولارات في مجال التقنية وتجهيز البنية التحتية؛ وذلك على الرغم من الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها الدولة المصرية؛ مُشيرًا إلى حرصه على الانخراط في مسيرة التطور العالمي.

بدون مبالغة؛ التحديث الشامل للمنطقة الحكومية وتوفير إمكانيات متقدمة للدولة المصرية؛ سواء إنشاء مراكز البيانات، أو الجزء الذي يضم على الأقل 50000 موظف حكومي، أو الشبكات الآمنة، أو مرافق آخرى؛ كُلِفَ حوالي 100 مليار جنية مصري - السيد عبدالفتاح السيسي (رئيس جمهورية مصر العربية)

وأضاف الرئيس أن في السابق؛ كان لكل وزارة خادم بيانات خاص بها، ولم تتمكن أي وزارة من ضمان أمان خوادمها والتفاعل مع باقي الوزارات؛ ولكن بعد إنشاء مركز البيانات؛ ستُضمن جميع الوزارات في المركز الرئيسي للبيانات؛ وأكد الرئيس أن الشبكة مؤمنة بشدة؛ مستدلًا على ذلك بعدم إمكانية الوصول إلى القاعات التي تحوي الخوادم ومراكز البيانات، حتى من قِبل الموظفين المسؤولين عن إدارتها.

وصرح الرئيس أن 90% من الكابلات البحرية في العالم تمر عبر مصر؛ وذلك نظرًا لموقعها المتميز في قلب العالم؛ واستنادًا لهذا الوضع الاستراتيجي، نشأت فكرة إقامة مركز بيانات رئيسي في مصر، لتكون مصر بذلك مركزًا مهمًا لنقل البيانات والاتصالات في العالم.

الرئيس عبد الفتاح السيسي أثناء افتتاح مركز البيانات P1

مركز البيانات P1 يُقدّم خدمات أسرع وأكثر كفاءة

سيعمل مركز البيانات على دفع عجلة دمج تقنية الذكاء الاصطناعي في جميع العمليات الحكومية؛ وذلك من خلال توفير تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات لدعم اتخاذ القرار على جميع المستويات؛ سيعمل P1 أيضًا كمركز وطني مركزي للبيانات؛ واستعادة البيانات بعد الكوارث، إذ تضمن الإدارة الذاتية، والكفاءة التشغيلية، والخصوصية للمشاريع الهامة؛ مثل الموانئ الذكية وتبسيط عمليات الاستيراد والتصدير.  

وأشار الرئيس السيسي أن مصر كانت تلجأ إلى تخزين بياناتها في الخارج مقابل مبالغ ضخمة؛ ولكن بعد إنشاء المركز تمكنت الحكومة من توطين بياناتها على أرض مصر. وقال خالد عبد الهادي أحد المسؤولين في مركز البيانات؛ أنه قام بمراجعة الخدمات المقدمة لعدة جهات حكومية، بما في ذلك القطاع الصحي.

وشملت المراجعات الخدمات المقدمة للقطاع الصحي؛ مثل إنشاء ملف طبي موجد للمرضى، وإدارة المستشفيات بنظام مركزي، وذلك لتسهيل تنقل المرضى وتحسين الخدمات. وأشار عبد الهادي إلى تشغيل خدمة الإسعاف بشكل آلي لرفع كفائتها، وذلك من خلال مراقبة سلوك السائقين والمسعفين باستخدام الكاميرات، لتحديد السلوكيات الخاطئة وتوجيههم إلى المركز الرئيسي للتشغيل.

وأوضح المسؤول بمركز البيانات؛ أن P1 سيقدم خدمات إلى وزارة العدل، من خلال تسهيل إجراءات الدعاوى القضائية، وتحويل المحاكم الاقتصادية والمدنية إلى محاكم ذكية؛ وأيضًا تحسين قدرات الإدارة المدنية ومستويات الخدمة العامة؛ وكذلك بناء شبكة فيديو وطنية للحد من معدل الجريمة وحوادث السير. وأعرب المسؤول عن تحسين إدارة الأزمات والطوارئ؛ إذ يؤدي الاستثمار بها إلى عائدات تقنية ومالية على المدى الطويل، وتحسين القدرات الوطنية يساهم في تقليل الخسائر البشرية والمادية الناتجة عن الكوارث والأزمات.

وشدد خالد عبد الهادي على أن ميناء أبوقير هو أول ميناء ذكي في مصر؛ كما بدأت خطوات تحويل ميناء العين السخنة إلى ميناء ذكي؛ ما يحفز المزيد من فرص الاستثمار وتبادل التجارة، بالإضافة إلى توفير برمجيات إدارة الأرصفة وفقًا للمعايير الدولية.

تُبحر مصر بثبات نحو ريادة التحول الرقمي في المنطقة؛ مدعومةً برؤية 2030 الطموحة. وتُجسّد هذه الرؤية التزامًا قويًا بالاستثمار في البنية التحتية الرقمية المتطورة، والشراكات العالمية الاستراتيجية، ودعم رواد الأعمال المبدعين، وإنشاء مراكز بيانات متقدمة؛ ما يُمهد الطريق لمستقبل رقمي مزدهر لمصر والمنطقة.